قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان : قالت العجوز لوالدك : كان الإمام الشافعي يقول : وددت أن الناس ينتفعون بهذا العلم على أن لا ينسب إلي منه شيء . وقال : ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يوفقه الله تعالى للحق ويعينه على إظهاره وما ناظرت أحداً قط إلا لأجل إظهار الحق وما أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه . وقال رضي الله تعالى عنه : إذا خفت على علمك العجب فاذكر رضا من تطلب وفي أي نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب . وقيل لأبي حنيفة : إن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور قد جعلك قاضياً ورسم لك بعشرة آلاف درهم فما رضي ، فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى إليه فيه بالمال صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم ثم جاء رسول أمير المؤمنين بالمال فلما دخل عليه وخاطبه لم يكلمه فقال له رسول الخليفة : إن هذا المال حلال . فقال : اعلم أنه حلال لي ولكني أكره أن يقع في قلبي مودة الجبابرة . فقال له : لو دخلت إليهم وتحفظت من ودهم . قال : هل آمن أن ألج البحر ولا تبتل ثيابي . من كلام الشافعي رضي الله عنه : ألا يا نفس إن ترضي بقولي ........ فأنت عزيزة أبـداً غـنـية دعي عنك المطامع والأماني ........ فكم أمنية جلبـت غـنـية ومن كلام سفيان النوري فيما أوصى به علي بن الحسين السلمي : عليك بالصدق وإياك والكذب والخيانة والرياء فإن العمل الصالح يحيطه الله بخصلة من هذه الخصال ولا تأخذ دينك إلا عمن هو مشفق على دينه وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا وأكثر ذكر الموت وأكثر الاستغفار واسأل الله السلامة فيما بقي من عمرك وانصح كل مؤمن إذا سألك عن أمر دينه وإياك أن تخون مؤمناً فإن من خان مؤمناً فقد خان الله ورسوله ، وإياك الجدال والخصام ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك تكن سليماً وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر تكن حبيب الله وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك واقبل المعذرة ممن اعتذر إليك ولا تبغض أحداً من المسلمين وصل من قطعك واعف عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء وليكن أمرك مفوضاً إلى الله في السر والعلانية واخش الله من خشية من قد علم أنه ميت ومبعوث وسائر إلى الحشر والوقوف بين يدي الجبار واذكر مصيرك إلى إحدى الدارين أما إلى جنة عالية وأما إلى نار حامية . ثم إن العجوز جلست إلى جانب الجواري فلما سمع والدك المرحوم كلامهن علم أنهن أفضل أهل زمانهن ورأى حسنهن وجمالهن وزيادة أدبهن فأواهن إليه وأقبل على العجوز فأكرمها وأخلى لها هي وجواريها القصر الذي كانت فيه الملكة إبريزة بنت ملك الروم ونقل إليهن ما يحتجن إليه من الخيرات فأقامت عنده عشرة أيام وكلما دخل عليها يجدها معتكفة على صلاتها وقيامها في ليلها وصيامها فوقع في قلبه محبتها وقال لي : يا وزير إن هذه العجوز من الصالحات وقد عظمت في قلبي مهابتها . فلما كان اليوم الحادي عشر اجتمع بها من جهة دفع ثمن الجواري إليها فقالت له : أيها الملك اعلم أن ثمن هذه الجواري فوق ما يتعامل الناس به فإني ما أطلب فيهن ذهباً ولا فضة ولا جواهر قليلاً كان ذلك . فلما سمع والدك كلامها تحير وقال : أيها السيدة وما ثمنهن ? قالت : ما أبيعهن لك إلا بصيام شهر كامل تصوم نهاره وتقوم ليله لوجه الله تعالى فإن فعلت ذلك فهن لك في قصرك تصنع بهن ما شئت . فتعجب الملك من كمال صلاحها وزهدها وورعها وعظمت في عينه وقال نفعنا الله بهذه المرأة الصالحة ثم اتفق معها على أن يصوم الشهر كما اشترطته عليه . فقالت : وأنا أعينك بدعوات أدعو بهن لك فائتني بكوز ماء . فأخذته وقرأت عليه وهممت وقعدت ساعة تتكلم بكلام لا تفهمه ولا تعرف منه شيئاً ، ثم غطته بخرقة وختمته وناولته لوالدك وقالت له : إذا صمت العشرة الأولى فأفطر في الليلة الحادية عشرة على ما في هذا الكوز فإنه ينزع حب الدنيا من قلبك ويملأه نوراً وإيماناً وفي غد أخرج إلى أخواني وهم رجال الغيب فإني اشتقت إليهم ثم أجيء إليك إذا مضت العشرة الأولى . فأخذ والدك الكوز ثم نهض وأفرد له خلوة في القصر ووضع الكوز فيها وأخذ مفتاح الخلوة في جيبه فلما كان النهار صام السلطان وخرجت العجوز إلى حال سبيلها .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .