قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما اتفقت مع من معها على الكلام قالت : فإذا ألقى إليكم الملك شركان سمعه فقولوا له : فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة علمنا أن ذلك العابد من أكابر الصالحين وعباد الله المخلصين فسافرنا مدة ثلاثة أيام ثم رأينا ذلك الدير فعرجنا عليه وملنا إليه وأقمنا هناك يوماً في البيع والشراء على عادة التجار ، فلما ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار قصدنا تلك الصومعة التي فيها السرداب فسمعناه بعد تلاوة الآيات ينشد هذه الأبيات : كيداً أكـايده وصـدري ضـيق ........ وجرى بقلبي بحرهم مغـرق إن لم يكن فرج فموت عاجـل ........ إن الحمام من الرزايا أرفـق يا برق إن جئت الديار وأهلهـا ........ وعلا عليك من البشائر رونق كيف السبيل إلى اللقاء وبينـنـا ........ تلك الحروب وباب رهن مغلق بلغ أحبتنا السلام وقـل لـهـم ........ إني بدير الروم قاص موثـق ثم قالت : إذا وصلتم بي إلى عسكر المسلمين وصرت أعرف أدبر حيلة في خديعتهم وقتلهم عن أخرهم . فلما سمع النصارى كلام العجوز قبلوا يديها ووضعوها في الصندوق بعد أن ضربوها أشد الضربات الموجعات تعظيماً لها لأنهم يرون طاعتها من الواجب ثم قصدوا بها عسكر المسلمين كما ذكرنا . هذا ما كان من أمر اللعينة ذات الدواهي ومن معها . وأما ما كان من أمر عسكر المسلمين فإنهم لما نصرهم الله على أعدائهم وغنموا ما كان في المراكب من الأموال والذخائر قعدوا يتحدثون مع بعضهم فقال ضوء المكان لأخيه : إن الله عز وجل قد نصرنا بسبب عذلنا وانقيادنا لبعضنا فكن يا شركان ممتثلاً لأمري في طاعة الله . فقال شركان : حباً وكرامة . ومد يده إلى أخيه وقال : إن جاءك ولد أعطيته ابنتي قضى فكان . ففرح بذلك وصار يهنئ بعضهم بعضاً بالنصر على الأعداء وهنا الوزير دندان شركان وقال لهما : اعلما أيها الملكان أن الله عز وجل نصرنا حيث وهبنا أنفسنا وهجرنا الأهل والأوطان ، والرأي عندي أن نرحل وراءهم ونحاصرهم ونقاتلهم لعل الله أن يبلغنا مرادنا ونستأصل أعداءنا وإن شئتم فانزلوا في هذه المراكب وسيروا في البحر ونحن نسير في البر ونصبر على القتال والطعن والنزال . ثم أن الوزير دندان ما زال يحرضهم على القتال وأنشد قول من قال : أطيب الطيبات قتل الأعادي ........ واحتمال على ظهور الجياد ورسول يأتي بوعد حبـيب ........ وحبيب يأتي بلا مـيعـاد وقال آخر : وإن عمرت جعلت الحرب والدة ........ والمشرفي أخا والسمهري أبـا بكل أشعث يلقي الموت مبتسماً ........ حتى كان له في قتـلـه إربـا فلما فرغ الوزير دندان من شعره قال : سبحان من أيدنا بنصره العزيز وأظفرنا بغنيمة الفضة والإبريز . ثم أمر ضوء المكان العسكر بالرحيل فسافروا طالبين القسطنطينية وجدوا في سيرهم حتى أشرفوا على مرج فسيح وفيه كل شيء مليح ما بين وحوش تمرح وغزلان تسنح وكانوا قد قطعوا مغاور كثيرة وانقطع عنهم الماء ستة أيام ، فلما أشرفوا على ذلك المرج نظروا تلك العيون النابعة والأثمار اليانعة وتلك الأرض كأنها جنة أخذت زخرفها وازّينت وسكرت أغصانها من رحيق الظل فتمايلت وجمعت بين عذوبة التنسيم فتدهش العقل والناظر كما قال الشاعر : انظر إلى الروض النضـير كأنـما ........ نشرت عليه ملاءة خـضـراء إن ما سنحت بلحظ عينك لا تـرى ........ إلا غديراً جـال فـيه الـمـاء وترى بنفسك عـزة فـي دوحـة ........ إذ فوق رأسك حيث سرت لواء وما أحسن قول الآخر : النهر خد بـالـشـعـاع مـورد ........ قد دب فيه عذار ظـل الـبـان والماء في سوق الغصون خلاخل ........ من فضة والزهر كالتـيجـان فلما نظر ضوء المكان إلى ذلك المرج الذي التفت أشجاره وزهت أزهاره وترنمت أطياره نادى أخاه شركان وقال له : إن دمشق ما فيها مثل هذا المكان فلا نرحل منه إلا بعد ثلاثة أيام نأخذ راحة لأجل أن تنشط عساكر الإسلام وتقوي نفوسهم على لقاء الكفرة اللئام . فأقاموا فيه . فبينما هم كذلك إذ سمعوا أصواتاً من بعيد فسأل عنهم ضوء المكان فقيل أنها قافلة تجار من بلاد الشام كانوا نازلين في هذا المكان للراحة ولعل العساكر صادفوهم وربما أخذوا شيئاً من بضائعهم التي معهم حيث كانوا في بلاد الكفار وبعد ساعة جاء التجار وهم صارخون يستغيثون بالملك ، فلما رأى ضوء المكان ذلك أمر بإحضارهم فحضروا بين يديه وقالوا : أيها الملك إنا كنا في بلاد الكفار ولم ينهبوا منا شيئاً فكيف تنهب أموالنا أخواننا المسلمون ونحن أخبرناك بما حصل لنا ? ثم أخرجوا له كتاب ملك القسطنطينية فأخذه شركان وقرأه ثم قال لهم : سوف نرد عليكم ما أخذ منكم ولكن كان من الواجب أن لا تحملوا تجارة إلى بلاد الكفار . فقالوا : يا مولانا إن الله سيرنا إلى بلادهم لنظفر بما لم يظفر به أحد من الغزاة ولا أنتم في غزوتكم . فقال له شركان : وما الذي ظفرتم به ? فقالوا : ما نذكر لك ذلك إلا في خلوة لأن هذا الأمر إذا شاع بين الناس ربما اطلع عليه أحد فيكون ذلك سبباً لهلاكنا وهلاك كل من توجه إلى بلاد الروم من المسلمين . وكانوا قد خبئوا الصندوق الذي فيه اللعينة ذات الداوهي ، فأخذهم ضوء المكان وأخوه واختليا بهم فشرحوا لهما حديث الزاهد وصاروا يبكون حتى أبكوهما .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .