قالت: بلغني أيها الملك السعيد ان الخليفة لما قال لعلي نور الدين أنا أكتب لك ورقة توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني، فإذا قرأها لا يضرك بشيء فقال له على نور الدين: وهل في الدنيا صياد يكاتب الملوك؟ إن هذا شيء لا يكون أبداً فقال له الخليفة: صدقت ولكن أنا أخبرك بالسبب اعلم أني أنا قرأت أنا وإياه في مكتب واحد عن فقيه وكنت أنا عريفه ثم أدركته السعادة وصار سلطاناً وجعلني الله صياداً ولكن لم أرسل إليه في حاجة إلا قضاها ولو أدخلت إليه في كل يوم من شأن ألف حاجة لقضاها، فلما سمع نور الدين كلامه قال له: اكتب حتى أنظر فأخذ دواة وقلماً، وكتب: بعد البسملة أما بعد فإن هذا الكتاب من هارون الرشيد بن المهدي إلى حضرة محمد بن سليمان الزيني المشمول بنعمتي الذي جعلته نائباً عني في بعض مملكتي أعرفك أن الموصل إليك هذا الكتاب نور الدين بن خاقان الوزير فساعة وصوله عندكم تنزع نفسك من الملك وتجلسه مكانك فإني قد وليته على ما كنت وليتك عليه سابقاً فلا تخالف أمري والسلام، ثم أعطى علي نور الدين بن خاقان الكتاب فأخذه نور الدين وقبله وحطه في عمامته ونزل في الوقت مسافراً وطلع قصر السلطان ثم صرخ صرخة عظيمة فسمعه السلطان فطلبه فلما حضر بين يديه قبل الأرض قدامه ثم أخرج الورقة وأعطاه إياها فلما رأى عنوان الكتاب بخط أمير المؤمنين قام واقفاً على قدميه وقبلها ثلاث مرات وقال: السمع والطاعة لله تعالى ولأمير المؤمنين ثم أحضر القضاة الأربعة والأمراء وأراد أن يخلع نفسه من الملك وإذا بالوزير المعين بن ساوي قد حضر فأعطاه السلطان ورقة أمير المؤمنين فلما قراها عن آخرها وأخذها في فمه ومضغها ورماها. فقال له السلطان وغضب: ويلك ما الذي حملك على هذه الفعال؟ قال له: هذا ما اجتمع بالخليفة ولا بوزيره وإنما هو علق شيطان مكار وقع بورقة فيها خط الخليفة فزورها وكتب فيها ما أراد فلأي شيء تعزل نفسك من السلطنة مع أن الخليفة لم يرسل إليك رسولاً بخط شريف ولو كان هذا الأمر صحيحاً لأرسل معه حاجباً أو وزيراً لكنه جاء وحده فقال له: وكيف العمل؟ قال له: أرسل معي هذا الشاب وأنا آخذه وأتسلمه منك وأرسله صحبة حاجب إلى مدينة بغداد فإن كان كلامه صحيحاً يأتينا بخط شريف وتقليد وإن كان غير صحيح ترسلوه إلينا مع الحاجب وأنا آخذ حقي من غريمي، فلما سمع السلطان كلام الوزير ودخل عقله صار على الغلمان فطرحوه وضربوه إلى أن أغمي عليه ثم أمر أن يضعوا في رجليه قيداً وصاح على السجان فلما حضر قبل الأرض بين يديه وكان هذا السجان يقال له قطيط، فقال له: يا قطيط أريد أن تأخذ هذا وترميه في مطمورة من المطامير التي عندك في السجن، وتعاقبه بالليل والنهار فقال له السجان: سمعاً وطاعة ثم أن السجان أدخل نور الدين في السجن وقفل عليه الباب ثم أمر بكنس مصطبة وراء الباب وفرشها بسجادة أو مخدة وأقعد نور الدين عليها وفك قيده وأحسن إليه، وكان كل يوم يرسل إلى السجان ويأمر بضربه والسجان يظهر أنه يعاقبه، وهو يلاطفه ولم يزل كذلك مدة أربعين يوماً. فلما كان اليوم الحادي والأربعون جاءت هدية من عند الخليفة فلما رآها السلطان أعجبته فشاور الوزراء في أمرها فقال: لعل هذه الهدية كانت للسلطان الجديد؟ فقال الوزير المعين بن ساوي: لقد كان المناسب قتله وقت قدومه فقال السلطان: والله لقد ذكرتني به انزل هاته واضرب عنقه، فقال الوزير: سمعاً وطاعة فقام وقال له: إن قصدي أن أنادي في المدينة من أراد أن يتفرج على ضرب رقبة نور الدين علي بن خاقان فليأت إلى القصر فيأتي جميع الناس ليتفرجوا عليه لأشفي فؤادي وأكمد حسامي فقال له السلطان: افعل ما تريد فنزل الوزير وهو فرحان مسرور وأقبل على الوالي وأمره أن ينادي بما ذكرناه فلما سمع الناس المنادي حزنوا وبكوا جميعاً حتى الصغار في المكاتب والسوقة في دكاكينهم وتسابق الناس يأخذون لهم أماكن ليتفرجوا فيها وذهب بعض الناس إلى السجن حتى يأتي معه ونزل الوزير ومعه عشرة مماليك إلى السجن ثم إنهم نادوا على نور الدين هذا أقل جزاء من يزور مكتوباً على الخليفة إلى السلطان ولا زالوا يطوفون به في البصرة إلى أن أوقفوه تحت شباك القصر وجعلوه في منقع الدم وتقدم إليه السياف وقال له: أنا عبد مأمور فإن كان لك حاجة فأخبرني بها حتى أقضيها لك، فإنه ما بقي من عمرك إلا قدر ما يخرج السلطان وجهه من الشباك فعند ذلك نظر يميناً وشمالاً، وانشد هذه الأبيات: فهل فيكم خـل شـفـيق يعـينـنـي سألـتـكـم بـالـلـه رد جـوابـي مضى الوقت من عمري وحانت منيتي فهل راحم لي كـي ينـال ثـوابـي وينظر في حالي ويكشف كـربـتـي بشربة مـاء كـي يهـون عـذابـي فتباكت الناس عليه وقام السياف وأخذ شربة ماء يناوله إياها، فنهض الوزير من مكانه وضرب قلة الماء بيده فكسرها وصاح على السياف وأمره بضرب عنقه فعند ذلك عصب عيني علي نور الدين فصاح الناس على الوزير، وأقاموا عليه الصراخ وكثر بينهم القيل والقال فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد علا وعجاج ملأ الجو والفلا فلما نظر إليه السلطان وهو قاعد في القصر قال: انظروا ماالخبر فقال الوزير: حتى نضرب عنق هذا قبل فقال له السلطان: اصبر أنت حتى ننظر الخبر وكان ذلك الغبار غبار جعفر وزير الخليفة ومن معه وكان السبب في مجيئهم أن الخليفة مكث ثلاثين يوماً لم يتذكر قصة علي نور الدين بن خاقان ولم يذكرها له أحد إلى أن جاء ليلة من الليالي إلى مقصورة أنيس الجليس فسمع بكاءها وهي تنشد بصوت رقيق قول الشاعر: خيالك في التباعد والتداني وذكرك لا يفارقه لساني وتزايد بكاؤها وإذا قد فتح الباب ودخل المقصورة فرأى أنيس الجليس وهي تبكي، فلما رأت الخليفة وقعت على قدميه وقبلتهما ثلاث مرات، ثم أنشدت هذين البيتين:
أيا من زكا أصـلاً وطـاب ولادة | وأثمر غصناً يانعاً وزكا جنـسـا | |
أذكرك الوعد الذي سـمـت بـه | محاسنك الحسنا وحاشاك أن تنسى |
فقال الخليفة: من أنت؟ قالت: أنا هدية علي بن خاقان إليك، وأريد إنجاز الوعد الذي وعدتني به من أنك ترسلني إليه مع الشريف، والآن لي هنا ثلاثون يوماً لم أذق طعم النوم فعند ذلك طلب الخليفة جعفر البرمكي، وقال: من مدة ثلاثين يوماً لم أسمع بخبر علي بن خاقان وما أظن إلا أن السلطان قتله ولكن وحياة رأسي وتربة آبائي وأجدادي إن كان جرى له أمر مكروه لأهلكن من كان سبباً فيه ولو كان أعز الناس عندي وأريد أن تسافر أنت في هذه الساعة إلى البصرة وتأتي بأخبار الملك محمد بن سليمان الزيني مع علي بن خاقان فامتثل أمره وسافر، فلما أقبل جعفر نظر ذلك الهرج والمرج والازدحام فقال الوزير جعفر: ما هذا الازدحام؟ فذكروا له ماهم فيه من أمر علي نور الدين بن خاقان. فلما سمع جعفر كلامهم أسرع بالطلوع إلى السلطان وسلم عليه وأعلمه بما جاء فيه وأنه إذا كان وقع لعلي نور الدين أمر مكروه فإن السلطان يهلك ما كان السبب في ذلك ثم إنه قبض على السلطان والوزير المعين بن ساوي وأمر بإطلاق علي نور الدين بن خاقان وأجلسه سلطاناً في مكان السلطان محمد بن سليمان الزيني وقعد ثلاثة أيام في البصرة مدة الضيافة فلما كان صبح اليوم الرابع التفت علي بن خاقان إلى جعفر وقال: إني اشتقت إلى رؤية أمير المؤمنين فقال جعفر للملك محمد بن سليمان تجهز للسفر فإننا نصلي الصبح وتنوجه إلى بغداد فقال: السمع والطاعة ثم إنهم وصلوا الصبح وركبوا جميعهم ومعهم الوزير المعين بن ساوي وصار يتندم على فعله وأما علي نور الدين بن خاقان فإنه ركب بجانب جعفر، وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى بغداد دار السلام، وبعد ذلك دخلوا على الخليفة، فلما دخلوا عليه حكوا له قصة نور الدين فعند ذلك أقبل الخليفة على علي نور الدين بن خاقان وقال له: خذ هذا السيف واضرب به رقبة عدوك فأخذه وتقدم إلى المعين بن ساوي فنظر إليه وقال: أنا عملت بمقتضى طبيعتي فاعمل أنت بمقتضى طبيعتك، فرمى السيف من يده ونظر إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين إنه خدعني وأنشد قول الشاعر: فخدعته بخديعة لمـا أتـى والحر يخدعه الكلام الطيب فقال الخليفة: اتركه أنت ثم قال لمسرور: يا مسرور قم أنت واضرب رقبته فقام مسرور ورمى رقبته فعند ذلك قال الخليفة لعلي بن خاقان: تمن علي، فقال له: يا سيدي أنا ما لي حاجة بملك البصرة وما أريد إلا مشاهدة وجه حضرتك فقال الخليفة: حباً وكرامة ثم إن الخليفة دعا بالجارية فحضرت بين يديه فأنعم عليهما وأعطاهما قصراً من قصور بغداد ورتب لهما مرتبات وجعله من ندمائه وما زال مقيماً عنده إلى أن أدركه الممات ليس هذا بأعجب من حكاية التاجر وأولاده؟ قال الملك: وكيف ذلك؟